Agadir Press - الإنسانُ إنسان.. وليسَ سِلعَة! - جريدة أكادير بريس
أحمد إفزارن
لَسنا من البَضائع.. نحنُ إنسان!
ولا تَتعَاملُوا معَنا، وكأنّنا منَ السّلَعِ المُنتشِرَةِ هُنا وهُناك، في أسواقِ المَصالِح..
فيا هؤلاء! لقد أَفسَدتُم الأخلاق.. وأََفقَدتُم الإنسانَ قِيمَتَهُ الأخلاقية..
وأَصبحَت القِيّمُ المُنبَثِقَةُ منَ الأخلاق، الخاصّةِ والعامّة، تتَدَهوَرُ أكثرَ فأكثَر، وتَقُومُ مَقامَها مَنافِع.. وتَقاطُعات.. ومُناوَرات.. وتَواطُؤات…
والأخلاقُ نفسُها أصبحَت تُباعُ وتُشترَى..
وباتَ كُلّ ما في الإنسان، وما يعُودُ إليه، معرُوضًا في المُزايَدات، يُباعُ ويُشترَى..
إنكم قد أَفقَدتُم الإنسانَ قيمَتهُ الإنسانية، وَحوّلتُمُوه إلى سلعةٍ وخَدمات، ومُقاوَلات، وصَفقَات، ومُقايضات، وكلُّها تجاراتٌ رِبحِيّة..
وأدواتٌ للكسبِ السّياسي.. والمالي..
ولا شيءَ فيها بالمَجّان!
وتَدخُلُ مَعها، في الاتّجار، سِباقاتٌ إلى التّفَوّقِ في صناعاتٍ عسكريةٍ مُتطوّرة، وفي إنتاجِ الآلياتِ الفضائية، لمُراقَبةِ خَرائطِ الأرض، وثرواتِ ومَعَادِنِ كلّ بلد، وضبطِ مَواقعِ القوّةِ والهَشاشة، والتّحالُفات والتّوافُقاتِ والتّنافُراتِ بين الدول.. والجماعات.. والأسواق..
والمراقَبةُ تُركّزُ أيضا على الأفراد: انتماءاتُهم.. حِساباتُهم.. وكيف يَتَسنّى استِقطابُهم.. وتَوظيفُهم لمُهمّاتٍ مَصلَحِية.. وكيف يتمّ استغلالُ إنسانٍ لإنسان..
وإنسانٍ ضدّ إنسان..
استراتيجياتٌ يتمّ فيها توظيفُ كلّ الثّروات، وتوظيفُ مُؤهّلاتِ الحاضر.. للتّحكّم في المُستقبل..
وكلّ هذه وغيرُها تدخلُ في حِساباتِ ما يُباع وما لا يُباع..
ولا استثناءَ للإنتاجِ المَعرفي..
وهذا يَعنِي مَراكزَ البحث العِلمي، ومُؤسّساتِ الإنتاجاتِ الدّقيقة والمُتوسّطةِ والكبيرة، بدءًا من المَراصدِ واللاّقِطاتِ العملاقة، وُصولاً إلى الآلياتِ الدقيقة: النّانُو تكنولوجيا..
كلُّ العُلوم يتمُّ إقحامُها في تَسليعِ المُؤهّلاتِ الجِسمِية والقلبِيةِ والعقليةِ والرّوحية.. وتَسليعِ الوقتِ والعلاقاتِ والتّغييراتِ وغيرِها…
أصبحَ تَسلِيعُ البشَرِ، بكلّ مُؤهّلاتِه، مُرادِفا وصيغةّ مُتطوّرةً لتجارةِ الرّقيق.. في أسواقٍ قديمةٍ للنّخاسة..
لقد تَراجَعت الإنسانيةُ حتى في التّعامُلاتِ الدّولية، وتَخضعُ لتبادُلِ المَصالِح..
والسّياسةُ في مُجمَلِها تَستغلُّ أيَّ شيء، وأيًّا كان، في سِباقاتِها إلى غدٍ قريب، ومُستَقبلٍ بعيد..
السياسةُ قد أفسَدَت العلاقاتِ الإنسانية، وجَعلت الإنسانَ شِعارا لا يُقاسُ مَضمونُه إلا بمدَى تَسلِيع إنسانٍ تحتَ سيطرةِ إنسان..
هو ذا قانونُ الغاب، بمفهُومٍ عَولمةٍ مُتوحّشة..
الحِيتانُ تَلتَهمُ الأسماكَ الصغيرة..
والحكومةُ تأخذُ من الفقير، وتُعطي للغَنِيّ..
ومنطقُها: الصّغيرُ في خدمةِ الكبير.. الضعيفُ يَشتَغِل، والقويّ يَستهلك..
القويّ يَبيعُ الضّعيف..
ويبيعُ أيَّ شيءٍ في مِلكِ الضّعيف..
هو ذا قانونُ الغَاب!
عقليةٌ إقطاعيةٌ بلا حُدود.. تَسمَحُ لنَفسِها بافتراسِ أيّ شيءٍ يملكُه شخصٌ ضَعيف.. وحتّى الشخصَ نفسَه!
والإقطاعيةُ الجديدةُ لا استثناءَ لها، حتى في التعليم..
وجامعاتٌ عندنا تتَعاملُ مع الامتِحاناتِ تَعامُلَ التّاجرِ مع البَضائع..
دِبلوماتٌ تُباعُ وتُشتَرَى..
وكلُّ شيءٍ عندهُم سِلعَة.. أو يُؤهَّلُ للتّسليع..
هذا خطرٌ يُهدّدُ كلّ أنواعِ الحُقوقِ الإنسانية..
وحربٌ أصبحت مفتوحةٌ بين القِيمةِ الإنسانيةِ من جهة، وبين تَشيِيءِ الكائنِ البشري، من جهةٍ أخرى.. والهدفُ واحدٌ هو: تحويل الإنسان إلى بِضاعة..
وكأنّ كلّ ما في الإنسان لا يَصلُحُ إلا للبيعِ والشّراء، ولو تَعلّقَ الأمرُ بفكرةٍ أو عُنقُودٍ مَعرِفي، مُعلَنٍ أو خَفِيّ..
وهذه – هي الأُخرى – تتَحوّلُ إلى سِلعةٍ قابلةٍ للتّسويق..
وكلّ ما يُنتَجُ، في تَصَوّرِهِم، يُمكنُ أن يكُونَ خدمةً من الخدَمات، وقابلاً للعَرضِ والطّلَب في أسواق النّخاسة..
وها قد عادَ بنا العالَمُ إلى عُصُورِ الاستِعباد، والاتّجارِ في البَشر..
وحربٌ اقتِصاديةٌ وإنتاجِيةٌ بين الشّركاتِ الكُبرى، وحتى بين الدّولِ الكُبرى، تَنتُجُ عنها تصفيّاتٌ للعُلماء والمُفَكّرينَ والحُكماءِ والمُعارِضِين، ما دام الهدفُ لم يَتَغَيّر، وهو تغليبُ المَصلَحة..
“الغايةُ تُبرّرُ الوسيلة”، كما قالوا قديما.. والحربُ مفتوحةٌ بين بين الخير والشر..
عَولمةٌ مُتوحّشةٌ لا تهُمّها إلا المَصالح، وأَنشَأت لنَفسِها، ومع غيرِها، أسواقًا للاتّجارِ في المَصالح، وفيها: المُقايَضة، المال، الخِدمة، الوَساطة، التكنُولُوجيا…
ولا حلالَ ولا حَرام، في تجارةِ التّوحّش..
ولا مُستحيل..
إنها حربُ إبادةٍ ضدّ الإنسانِ والإنسانية..
حتى المُختبراتُ العِلميةُ يتمّ تَوجيهُها لاكتشافِ المَنافعِ والاحتياجات، لكي يَتَحوّلَ كلُّ شيء، حتى المَواجِع، إلى سِلعةٍ من السّلَع، ويَتحوّلَ الفضاءُ الإنساني إلى سُوقٍ شِعارُه: “الغايةُ تُبرّرُ الوسِيلة”..
والعالَم، بهذه العقلية، مُنزلقٌ إلى مجهول..
مُقبِلُ على تفريغِ الإنسانِ من آخرِ ما تَبَقّى فيه من قِيّمٍ إنسانية..
وتَفريغِ الأرضِ من آخرِ ما في تُربَتِها من مُكوّناتِ الحَياة، ومنها إبادةُ كائناتٍ فلاحيةٍ منها الدّودُ الذي يُنعِشُ الزّراعةَ الطّبيعِيّة، وإبادةُ النّحل، وبالتالي العَسَلِ الطبيعي..
ولم تعُد الأغذيةُ تَعتَمدُ فلاحةً طبيعية.. أصبَحت تَعتمدُ الرشَّ بالمُبِيدَات، لهدفِ الإكثارِ من الإنتاج، بدَلَ التركيزِ على القِيمَة الغَذائية..
مَنطقُ السّوق يُحرّضُ على مزيدٍ من الإنتاج، حتى بدون قِيمةٍ غذائية..
القِيمةُ الغَذائيةُ تتَراجَع، لفائدةِ الوَفرة الإنتاجية..
وهكذا تتَحوّلُ القيمةُ إلى شيءٍ من الأشياء..
ويتمُّ تَشيِئُ القِيمةِ الغذائية.. وبالتالي، تَسلِيعُ الإنتاج، ولو بدون قِيمة!
ونتيجةً للواقعِ الجديد، ظَهرت أمراضٌ لم تَعهَدها الحياةُ من قَبل..
والفلاحةُ تَنقَلِبُ رأسًا على عقِب..
و”انتَعَشَت” الصناعةُ الغذائيةُ بطريقةِ استخدامِ الكيماويّاتِ والمُبيدات..
ومعها “انتَعَشَت” الصناعةُ الصيدليةُ والطّبّية، لخَلقِ احتياجاتٍ عِلاجِية، أي تَشيِيءُ الأمراض، وتحويلُ كلِّ ما في الإنسان، ظاهرًا وباطنا، مرئيًّا وغيرَ مرئي، إلى أنواع من السّلع التي هي مُنتَجاتٌ من جِسمٍ وعقلٍ ونفسيةٍ للإنسان…
مُنتجاتٌ من الإنسان إلى الإنسان..
وهذه وغيرُها، يَشتَرِيها حتى الإنسانُ المريضُ والمُعوِزُ والمُعَوَّق…
وحتى العَجَزةُ يُصبحون – بالضّرورة – زُبناءَ لموادّ تَضُرُّ ولا تَنفَع!
ولا حلالَ ولا حرام، في منطقِ الشركاتِ العملاقةِ المُتشَبّعةِ بعَولَمةِ الغاب!
ولا مَرفوض ولا مَقبُول!
المُعادَلاتُ هي نفسُها في مَنطِقِ “التّوحّشِ العَولَمِي”.
وهذا هو تَوَجُّهُ الرأسماليةِ الجديدة..
رأسماليةٌ لا تضَعُ حُدودَا بين كرَامةِ الإنسان، وتَسليعِ الإنسان..
ولا بين حُقُوقِه، ووَاجِباتِ المُنتِجِين..
ولا بين جَودةِ المنتُوج.. واللاّجَودة..
رأسماليةٌ تجعلُ قلّةً قليلةً تَملِكُ مُجمَلَ ثرَواتِ كوكبِ الأرض، بينما الأغلبيةُ السّاحِقةُ في فقرٍ مُدقِع، وتَنتظرُ فُتاتًا من قلّةٍ تُمارِسُ التّسليعَ البَشَري..
ودَخَلنا في زَمنٍ يُقرّبُنا أكثرَ من خطّ النهاية..
والحياةُ على الأرضِ تَفقِدُ الحمايةَ الطبيعية، في مَجالاتِ البِيئة، حيثُ الاختلالُ يُقرّبُ الأرضَ من انقراضِ آخرِ مُكوّناتِ الحياةِ الطبيعية..
لقد أَصبَحَت حياتُنا اليوميةُ قائمةً على أغذِيةٍ اصطِناعية، وعلى إنتاجياتٍ مُتكاثِرةٍ على أساسِ إشهارات، وعلى تسويقاتٍ في جُلّها ذاتُ أبعادٍ وَهمِيّة..
وهُم يَخلُقون لكَ الاحتياج، لكي يَبِيعُوكَ مَنتُوجَهم الذي قد يَتقادَم، ويُصبِحُ غيرَ صالِح.. ويَلُفّونهُ لك بتسميةٍ جديدة..
حياةٌ قائمةٌ على أوهامِ المَنطقِ التّجاري الرّبحِي، وعلى النّصبِ والاحتِيّال..
ويُنتِجُون للدّولِ احتِياجات، ليَبِيعُوها ابتكاراتِ الصناعةِ العَسكرية..
عالَمٌ يَفتَقِدُ كلَّ القيمِ الإنسانية، ويَبنِي علاقاتِه على أساسِ المَصالِح، وعلى رأسِها تغليبُ المَصالحِ التّعامُلية، على القِيّمِ الإنسانية..
ويَقتُلون في الإنسانِ ما تَبقّى من إنسانية..
حتى الآفاقُ المستقبلية، يَبِيعُون فيها.. ويُحوّلُونها إلى سِلعة..
وحتى الغيبيّاتُ يُتاجِرُون فيها.. وهي الأخرى يَجعلُون منها سِلعةً للمُتاجَرةِ أو المقايَضة..
الأوهامُ حاضِرةٌ في أسواق المَصالح..
الأوهامُ نفسُها قد حوّلوها إلى سلعة..
و”تُجّارُ الدين”، هذا مَجالُهم..
يَبِيعَون أوهامَ الآخرة.. وخرائطَ وقَصَصًا مُفَبرَكةً لعوالمَ غيْبِيّة..
ويَلُفّونَ هذا في شَعوَذَاتٍ وخُرافاتٍ وتُرّهاتٍ من نَسجِ الخيال..
وها هُم يُتاجِرُون في الخيال..
الخيالُ نفسُه عالَمٌ من التّسلِيعِ والتّلفِيفِ والتّسويق..
و”فُقهاءُ” يَبِيعُون “أمَاكِنَ” وَهمِيّةً في الجنّة، وتَحذِيراتٍ تَرعِيبيّةً منَ النار..
ويتَقمّصُون شخصيةَ “إلهِ الكَون”..
وجُلّهُم قد صنَعوا ثروةً من تِجارةِ الأوهامِ الغيْبِيّة، وكأنهم هُم قد وَصَلُوا إلى الآخرة، وأصبحُوا على علمٍ بكلّ تَفاصِيلِ الجَزاء: ثَوابًا وعِقابًا..
حوّلُوا الدّينَ إلى سِلعة..
والثّقافةَ إلى سِلعة..
والفُنونَ إلى سِلعة..
والعُلومَ الإنسانية.. وغيرَها…
وأفرغُوا الثقافةَ والتعليمَ والصحةَ والعدلَ والأخلاقَ والشُّغلَ من مَضامِينِها القيميّة، وحوّلُوها إلى بَضائعَ للعَرضِ في أسواقِ الخُردَةِ الإنتاجيةِ والخدَماتيّة..
وها هُم يتَعاملُون معنا وكأنّنا سِلعةُ معرُوضةٌ في أسواقِ البَضائع..
ويَستحيلُ أن تَستمرّ الحياةُ على هذا التّنافُرِ الصارِخ بين الإنسانِ واللاّإنسان..
وبين إنسانٍ وشِبهِ إنسان..
وبين إنسانٍ و”إنسانٍ آلي”..
روبُوت بَشَرِي يُمكِنُ استخدامُه في أيةِ مهامّ، بغضّ النظرِ عن مَفهُومِ “حقُوق الإنسان”..
الرُّوبُوت يُشبِهُ الإنسان، ولكنهُ كائنٌ مَعدِني بلاستيكي، له دماغٌ اصطناعي، رقمي، وليست له مَشاعر.. ولا ضمير..
وهذا قد أصبحَ نَمُوذَجا لتَسليعِ الإنسان..
كي يكُونَ الإنسانُ نُسخةً سيّئَةً للرّوبُوت: عقلاً بلا قلب..
ولا إنسانية.. ولا ضَمير!
ifzahmed66@gmail.com
تعليقات
إرسال تعليق